دون كيخوته
مؤخرا اختار أكثر من 50 روائيا عالميا من أكثر من دولة رواية (دون كيخوته) للروائي الأسباني ثربانتس على أنها أفضل رواية ظهرت على الإطلاق، ليس هنالك من لا يعرف دون كيخوته هذا الذي أدمن قراءة كتب الفروسية ومغامرات الفرسان إلى حد الافتنان وأصابته القراءة بلوثة جعلته يهجر (اقطاعيته) مرتديا لباس الفرسان حاملا حربته وممتطيا ظهر فرسه (روثينانته) بينما تابعه سانشو بانثا يسير وراءة على ظهر حمار هزيل كي يشهد بطولات سيده دون كيخوته وانتصاراته كان عصر الفروسية قد انتهى منذ زمن بعيد ولم يعد للفرسان وجود إلا أن دون كيخوته يصر على أن يرى ما يريد وأن يعمي عينيه عن رؤية الواقع بل أن يحول هذا الواقع إلى مثال مطابق لما يقرأه أي أنه كما قال عنه الفيلسوف ميشيل فوكو (كان يقرأ العالم ليبرهن على الكتب) لهذا يخترع ذهن دون كيخوته المعارك الوهمية ويخترع له محبوبة (دليسيني) كما درج الفرسان كي يهدي لها انتصاراته وبطولاته ورغم أنه لم يرها إلا أنه يكلف مساعده سانشو بأن يروي لها كيف جندل الأبطال وأطاح بالفرسان في مفارقات ساخرة تبعث على الضحك فإذا كان الفرسان وأبطال الملاحم ينتصرون دوما ويحتفظون بعظمتهم فإن مقلدهم ومتتبع خطاهم دون كيخوته مهزوم وبدون أية عظمة والخيبة تلاحقه دوما وأبدا.
الرواية التي ترجمها عبد الرحمن إلى العربية في ما يقارب الألف صفحة مؤكدا في بداية تصديره لها على أن (روائع الأدب العالمي أربع) (الإلياذة لهوميروس والكوميديا الإلهية لدانتي ودون كيخوته لثربانتس وفاوست لجيته) هي عبارة عن سلسلة من الحكايات التي تتعدد وتتنوع ورغم أن حكاية محاربة الفارس الحزين الطلعة دون كيخوته لطواحين الهواء التي ظنها فرسان عمالقة هي واحدة من عدة حكايات عديدة ساخرة تبعث على الضحك إلا أنها أصبحت من أشهر حكاياته ومغامراته حيث تطوح أذرع الطاحونة بعيدا بالفارس الهزيل المندفع نحوها برمحه قبل أن يسقط على الأرض مرتض الضلوع والمفاصل ولعل شهرة هذه الحكاية تكمن في حدة المفارقة الساخرة التي تنكشف فيها البطولة الزائفة لدون كيخوته مما جعل محاربة طواحين الهواء مثالا يضرب للتدليل على الحالمين الذين لا يستطيعون الانسجام مع الواقع ويطالبون بتغييره رغم استحالة تحقيق مطالبهم! وبالتالي فشلهم الحتمي ولكن روعة شخصية دون كيخوته هي في روحه التي لا تثنيها الكبوات وذهنه القادر على تحوير الهزائم إلى انتصارات ساحقة وأيضا في ملامحه المليئة بالخيبة لكنها رغم ذلك تنطوي على نبل يبعث على الافتنان، كذلك هنالك حكايات عديدة ومواقف تقتل من الضحك إن جاز التعبير ولا أعتقد أن هنالك رواية قادرة على الإضحاك بمثل هذه الحدة مثلما تفعل رواية دون كيخوته.
ثربانتس الذي أصدر الجزء الأول من روايته عام 1605م في مدريد تحت عنوان (النبيل البارع دون كيخوته دلامنتشا) والجزء الثاني من روايته عام 1615م لم يكن يتوقع لروايته كل هذا النجاح والخلود، ففي عام 1995م احتفلت أسبانيا احتفالا كبيرا بمناسبة مرور ثلاثمائة قرن على صدور هذه الرواية العظيمة، آلاف الدراسات والرسائل الجامعية والدراسات النقدية والروايات والقصص المحاكية والمتأثرة ظهرت بعدها فهي غيرت مسار الرواية ككل بل أن هذه الرواية تعتبر بالنسبة لأوروبا بداية ونقطة انطلاق في فن جديد وهو فن الرواية إلى حد أن الروائي التشيكي الشهير ميلان كونديرا ذهب إلى القول (أن مؤسس الأزمنة الحديثة في نظري ليس ديكارت فحسب بل كذلك ثربانتس.. فإذا كان صحيحا أن الفلسفة والعلوم قد نسيا كينونة الإنسان، فإنه يظهر بوضوح أن فنا أوروبيا قد تكون مع ثربانتس، وما هذا الفن إلا سبر هذا الكائن المنسي) ويوضح كونديرا ما يعنيه في مكان آخر) دون كيخوته كان يفكر وسانشو يفكر ومع ذلك فلا تفلت منهما حقيقة العالم فحسب بل تفلت منهما كذلك حقيقة الأنا الخاصة بهما (وهذا ما يشكل من وجهة نظره فتحا جديدا في الرواية أو كما يسميه (حكمة الرواية).
ثربانتس (1547 ـ 1616) مؤلف هذا العمل الأدبي العظيم عاش كاتبا مغمورا بين كتاب عصره، معذبا بآلامه وفقره وشعور طافح بالمرارة من حياة لم يذق منها سوى المتاعب، عاش في إيطاليا عصر النهضة ردحا من حياته كان لها الأثر البالغ في تفتح روحه وحساسيته للجمال والفنون والآداب ثم انخرط في الجندية وكان مقاتلا صعب المراس إلى حد أنه فقد القدرة على استخدام يده اليسرى، وعاش فترة في الجزائر أسيرا وكاد يقتل في محاولة للهرب وهذه الفترة في الجزائر لها أثر عميق في نفسه يتضح في روايته الشهيرة، وحين عاد إلى وطنه لم يلاقي فيها سوى العذاب والشقاء والفقر والحرمان والإنكار لموهبتة، وعاش بائسا وضحية للظلم والاتهامات والسجن المتكرر، وبعد أن فقد وظيفته كمحصل ضرائب أخذ يتعيش من كتابة الرسائل للاميين إلى أن توفي عام 1616م.
كان كل ما أراده ثربانتس حين شرع بكتابة روايته (دون كيخوته) هو أن يسخر من كتاب عصره وكتب الفروسية التي كانت منتشرة وعليها إقبال كبير بل كان ثربانتس هو أحد القراء لهذا النوع من الكتب كما يتضح من روايته لهذا صور لنا هذا القارئ الذي أدمن قراءة كتب الفروسية وأصابه الافتنان والهوس إلى حد أنه يتدرع بلباسهم ويتلمس خطاهم دون أن يعير انتباها لاختلاف الزمان والمكان وذلك في سخرية واضحة من أبطال تلك الكتب ومؤلفيها التي كان يرى أنها كاذبة وزائفة لكن هذا الهدف البسيط دفع ثربانتس لانتاج هذه الرواية العظيمة!.
أهم ما يمكن أن ننتبه إليه نحن العرب هو أن هذه الرواية العظيمة التي تم اختيارها كأعظم رواية على الإطلاق بها تأثر لا يخفى بكتاب ألف ليلة وليلة بدأ من العناوين التي تشبه الليالي وانتهاء بأساليب السرد والحكايات المتنوعة والمتناوبة داخل النسيج السردي الرئيسي بل إن ـ وهذا ما يستدعي الانتباه ـ ثربانتس يشير في بداية الرواية إلى أن مغامرات (دون كيخوته) كتبت أصلا بالعربية على يد كاتب مغربي وأن روايه هو ثربانتس هي ترجمة تقريبية للنص العربي!.
فإذا كانت هذه الرواية التي افتتحت العصر الحقيقي للرواية في أوروبا وولدت من رحمها روايات لا حصر لها تأثرت بأسلوب السرد العربي ألا يستوجب ذلك علينا نحن العرب الاهتمام أكثر بالمنجز السردي العربي ومحاولة تطويره واغنائه وأخيرا ابداع فنون سردية ذات هوية عربية خالصة دون الوقوع في فخ الافتنان بالآخر وتقليده.
للكاتب
ناصر بن صالح الغيلاني